الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{و} لما ضاق قلب يعقوب عليه السلام بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين: {تولى عنهم}، أي: انصرف بوجهه عنهم لما توالى عنده من الحزن: {وقال يا أسفا}، أي: يا أسفي: {على يوسف}، أي: تعال هذا أوانك، والأسف اشدّ الحزن والحسرة، والألف بدل من ياء المتكلم، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث إنما هو مصيبتهما؛ لأن مصيبته كانت قاعدة المصائب، والحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأوّل، كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبرًا جديدًا جدّد حزنه على أخيه مالك:
ولأنه كان واثقًا بحياتهما دون حياته، وفي حديث رواه الطبراني «لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم» ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع، وقال: {يا أسفا}، {وابيضت عيناه}، أي: انمحق سوادهما وبدل بياضًا: {من الحزن}، أي: من كثرة البكاء عليه، وقيل: عند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقيل: ضعف بصره حتى صار يدرك إدراكًا لطيفًا، وقيل: عمي، وقال مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف عليه السلام. قيل: إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن، فقال: إنّ بصر أبيك ذهب من الحزن عليك، فوضع يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني، ولم أكن حزنًا على أبي.فإن قيل: هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية وهو لا يليق بمثل يعقوب عليه السلام أجيب: بأنه لم يذكر إلا هذه الكلمة، ثم عظم بكاؤه، ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر ما لا ينبغي، ولم يظهر الشكاية مع أحد من الخلق ويدل لذلك قوله: {فهو كظيم}، أي: مغموم مكروب لا يظهر كربه وقوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} فكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية به، فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء الجزيل. روي أن يوسف عليه السلام قال لجبريل عليه السلام: هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: فكيف حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، وهي التي لها ولد واحد يموت. قال: فهل له أجر؟ قال: نعم أجر مئة شهيد، ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد وأيضًا البكاء مباح فقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: «القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون». رواه الشيخان.تنبيه: شرف الإنسان باللسان والعين والقلب فبين تعالى أن هذه الثلاثة كانت غريقة في الغم، فاللسان كان مشغولًا بقوله: يا أسفا، والعين بالبكاء والبياض، والقلب بالغم الشديد، أي: الذي يشبه الوعاء المملوء الذي سد فلا يمكن خروج الماء منه، وهذا مبالغة في وصف ذلك الغم.ولما وقع من يعقوب عليه السلام ذلك كأن قائلًا يقول: فما قال له أولاده؟ فقيل: {قالوا} له حنقًا من ذلك: {تالله تفتؤ}، أي: لا تفتأ، أي: لا تزال: {تذكر يوسف} تفجعًا، فتفتأ جواب القسم وهو على حذف لا كقول الشاعر: ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتًا لاقترن بلام الابتداء ونون التوكيد معًا عند البصريين أو أحدهما عند الكوفيين، فتفتأ هنا ناقصة بمعنى لا تزال كما تقرّر، ورسمت تفتؤ بالواو: {حتى} إلى أن: {تكون حرضًا}، أي: مشرفًا على الهلاك لطول مرضك وهو مصدر يستوي فيه الواحد وغيره: {أو تكون من الهالكين}، أي: الموتى.فإن قيل: لما حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعًا؟أجيب: بأنهم بنوا الأمر على الظاهر، قال أكثر المفسرين: قائل هذا الكلام هم أخوة يوسف، وقال بعضهم: ليس الأخوة بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاده وخدمه، ولما قالوا له ذلك فكأن قائلًا يقول: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} لهم: {إنما أشكو بثي} والبث أشد الحزن سمي بذلك؛ لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر: {وحزني} مطلقًا وإن كان سببه خفيفًا يقدر الخلق على إزالته: {إلى الله} المحيط بكل شيء علمًا وقدرةً لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه: {وأعلم من الله}، أي: الملك الأعلى من اللطف بنا أهل البيت: {ما لا تعلمون} فيأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أمورًا: أحدها: أنّ ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا يا نبي الله، ثم أشار إلى جانب مصر وقال: اطلبه من هاهنا ولذلك قال: {يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا}، أي: والتحسيس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسيس بالجيم، وقيل: التحسيس بالحاء يكون في الخير، وبالجيم يكون في الشرّ ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورة الناس، والمعنى تحسسوا خبرًا: {من} أخبار: {يوسف وأخيه}، أي: اطلبوا خبرهما.وثانيها: أنه علم أنّ رؤيا يوسف عليه السلام صادقة؛ لأنّ أمارات الرشد والكمال ظاهرة في حق يوسف عليه السلام، ورؤيا مثله لا تخطئ.وثالثها: لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عين الوقت، فلهذا بقي في القلق.ورابعها: قال السدي: لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله وأقواله وأفعاله طمع في أن يكون هو يوسف وقال: بعيد أن يظهر في الكفار مثله، ثم تلطف ببنيه وقال لهم: {ولا تيأسوا}، أي: تقنطوا: {من روح الله} قال ابن عباس: من رحمة الله. وقال قتادة: من فضل الله. وقال ابن زيد: من فرج الله. {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، أي: الغريقون في الكفر، قال ابن عباس: إنّ المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده على الرخاء، والكافر على الضدّ من ذلك، فإنّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أنّ إله العالم غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، وإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر ثبت أنّ اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرًا.وقرأ البزي بعد التاء من {تيأسوا} وبعد الياء من {لا ييأس} بألف وبعدها ياء مفتوحة بخلاف عنه، والباقون بهمزة مفتوحة قبلها ياء ساكنة. ولما قال يعقوب عليه السلام لبنيه ذلك قبلوا منه هذه الوصية وعادوا إلى مصر.{فلما دخلوا عليه}، أي: على يوسف عليه السلام: {قالوا يا أيها العزيز} وكان العزيز لقبًا لملك مصر يومئذ: {مسنا وأهلنا}، أي: من خلفناهم وراءنا: {الضر}، أي: لابسنا ملابسة نحسها: {وجئنا ببضاعة} وقالوا: {مزجاة} إمّا لنقصها أو لرداءتها أو لهما جميعًا. وقال الحسن: البضاعة المزجاة القليلة، واختلفوا في تلك الرداءة. فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم وقيل: إنّ دراهم مصر كان ينقش فيها صورة يوسف عليه السلام، والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها ذلك فما كانت مقبولة عند الناس، ثم سببوا عن هذا الاعتذار؛ لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم قولهم: {فأوف لنا الكيل}، أي: شفقة علينا بسبب ضعفنا: {وتصدّق}، أي: تفضل: {علينا} زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه، ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله تعالى عللوا ذلك بقولهم: {إنّ الله}، أي: الذي له الكمال كله: {يجزي المتصدّقين}، أي: وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.فائدة:سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبي من الأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام؟ قال سفيان: ألم تسمع قوله: {وتصدّق علينا..} الآية يريد أن الصدقة كانت حلالًا لهم ولأبيهم. وروي أنّ الحسن سمع رجلًا يقول: اللهم تصدّق عليّ قال: إنّ الله لا يتصدّق وإنما يتصدّق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني وتفضل عليّ.فإن قيل: إذا كان أبوهم أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه فلم عادوا إلى الشكوى؟أجيب: بأن المتحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق والاعتراف بالعجز، وضموا رقة الحال وقلة المال وشدّة الحاجة، وذلك مما يرقق القلب فقالوا: نجربه في هذه الأمور، فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا، فقدّموا هذه المقدّمة قال أبو إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة على إخوته فارفض دمعه فباح بالذي كان يكتم فلهذا.{قال} لهم: {هل علمتم} مقرّرًا لهم بعد أن استأنسوا به، قال البقاعي: والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان: {ما}، أي: قبح الذي: {فعلتم بيوسف}، أي: أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه: {وأخيه} في جعلكم أباه فريدًا منه ذليلًا بينكم، ثم في قولكم له لما وجد الصاع في رحله: لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل، وإنما قال لهم ذلك نصحًا لهم وتحريضًا على التوبة وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريبًا، وقيل: أعطوه كتاب يعقوب عليه السلام في تخليص بنيامين، وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه، فقال لهم ذلك وقوله: {إذ أنتم جاهلون}، أي: فاعلون فعلهم؛ أو لأنهم كانوا حينئذ صبيانًا طياشين تلويحًا إلى معرفته، فقد روي أنه لما قال هذا تبسم وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله منه من رآه ولو مرّة واحدة فعرفوه بذلك فلذلك.{قالوا أئنك لأنت يوسف} استفهام تقرير، ولذلك حقق بأن واللام عليه، وقيل: عرفوه بنظره وخلقه حين كلمهم، وقيل: رفع التاج عن رأسه فرآوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء، وكان لسارة ويعقوب وإسحاق مثلها. وقرأ ابن كثير بهمزة مكسورة بعدها نون على الخبر، وقرأ قالون وأبو عمرو بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة مسهلة بينهما ألف على الاستفهام، وقرأ ورش بغير ألف بينهما، والتسهيل في الثانية على الاستفهام أيضًا، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين مع القصر، ولهشام وجه ثان وهو المدّ، وقيل: أنهم لم يعرفوه حتى: {قال} لهم: {أنا يوسف} وزادهم بقوله: {وهذا أخي} بنيامين شقيقي، وإنما ذكره لهم ليزيدهم ذلك معرفة له وتثبيتًا في أمره وليبني عليه قوله: {قد منّ الله علينا} قال ابن عباس: بكل خير في الدنيا والآخرة. وقال آخرون: بالجمع بيننا بعد التفرقة. {إنه من يتق}، أي: المعاصي: {ويصبر}، أي: على البليات وأذى الناس وقال ابن عباس: يتقي الزنا ويصبر على العزوبة، وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن: {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} والمعنى أنه من يتق ويصبر، فإنّ الله لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين، وقرأ قنبل بإثبات الياء بعد القاف وقفًا ووصلًا، واختلف المعربون في ذلك على وجهين: أجودهما: أنّ إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب وأنشدوا عليه قول قيس بن زهير: وقول الآخر: وقول الآخر: والثاني أنه مرفوع غير مجزوم ومن موصولة والفعل صلتها، فلذلك تمم بإثبات لامه وسكن (يصبر) لتوالي الحركات، وإن كانت في كلمتين، وقرأ الباقون بالحذف وقفًا ووصلًا، ولما ذكر يوسف عليه السلام لإخوته أنّ الله تعالى منّ عليه، وأنه من يتق ويصبر فإنّ الله تعالى لا يضيعهم صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمرتبة ولذلك.{قالوا} مقسمين بقولهم: {تالله}، أي: الملك الأعظم: {لقد آثرك}، أي: اختارك: {الله علينا} بالعلم والعقل والحلم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أنّ إخوته ما كانوا أنبياء؛ لأنّ جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوّة كالعدم بالنسبة إليه، فلو شاركوه في منصب النبوّة لما قالوا ذلك، ثم قالوا: {وإن كنا لخاطئين}، أي: والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، ولذلك أذلنا الله تعالى لك، فكأنه قيل: ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إهانتهم له؟ فقيل: {قال} لهم قول الكرام اقتداءً بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: {لا تثريب}، أي: لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك: {عليكم اليوم} وإنما خصه بالذكر؛ لأنه مظنة التثريب فإذا انتفى ذلك فيه فما ظنك بما بعده، ولما أعفاهم من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله تعالى، فاتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله: {يغفر الله}، أي: الذي لا إله غيره: {لكم}، أي: ما فرط منكم، وعبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشادًا لهم إلى إخلاص التوبة، ورغبّهم في ذلك، ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال: {وهو} تعالى: {أرحم الراحمين} لجميع العباد لاسيما التائب، فهو جدير بإدراك النعم.روي أنهم أرسلوا إليه إنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشيًا ونحن نستحي مما فرط منا، فقال: إن أهل مصر ينظرونني وإن ملكت فيهم بعين العبودية فيقولون: سبحان من بلغ عبدًا بعشرين درهمًا ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من ذرية إبراهيم عليه السلام، ولما أقرّ أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى سأل عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ابيضت عيناه من الحزن فأعطاهم قميصه وقال: {اذهبوا بقميصي هذا} وهو قميص إبراهيم عليه السلام الذي لبسه حين ألقي في النار عريانًا فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيم، فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك في قصبة من فضة وسدّ رأسها وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين، وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عريانًا جاءه جبريل وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص وألبسه إياه، ففي الوقت جاء جبريل عليه السلام وقال: أرسل ذلك القميص، فإنّ فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال: إذا وصلتم إلى أبي: {فألقوه على وجه أبي يأت}، أي: يصر: {بصيرًا}، أي: يردّ إليه بصره كما كان، أو يأت إليّ حال كونه بصيرًا: {وأتوني}، أي: أبي وأنتم: {بأهلكم}، أي: مصاحبين لكم: {أجمعين} لا يتخلف منكم أحد فرجعوا بالقميص لهذا القصد. وروي أنّ يهوذا هو الذي حمل القميص لما لطخوه بالدم فقال: لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف من مصر إلى كنعان، وبينهما ثمانون فرسخًا.{ولما فصلت العير} من عريش مصر وهو آخر بلاد مصر إلى أوّل بلاد الشأم: {قال أبوهم} لولد ولده ومن حوله من أهله مؤكدًا لعلمه أنهم ينكرون قوله: {إني لأجد ريح يوسف} أوصلته إليه ريح الصبا بإذن الله تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر، قال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص.قال أهل المعاني: إنّ الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدّة المحنة ومجيء وقت الفرج من المكان البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل، ومعنى: {أجد ريح يوسف} أشم وعبر بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشم: {لولا أن تفندون}، أي: تنسبوني إلى الخرف.
|